مقالات

الصدمات والاقتصادات .. هل الطريق سالك؟

السؤال الملح والمتكرر الذي يطرح حاليا بل بين فترة وأخرى، هل استطاع العالم تجنب الآثار السلبية للحرب في أوكرانيا؟ وهل تأقلم مع العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الدول الغربية على موسكو؟ والإجابة البسيطة والمختصرة والقصيرة في الوقت نفسه، لا يوجد طريق سالك وواضح في القريب العاجل، فهناك من يرى أن الأمر لم ينته بعد، فالاقتصاد الأوكراني الذي يعتمد عليه عديد من دول العالم النامية في إمدادات الغذاء والأسمدة، قد انكمش بمقدار الثلث، والعقوبات على روسيا تزيد من مشكلات سلاسل الإمداد، كما أن ارتفاع أسعار الفائدة والتضخم يضيفان أعباء واسعة، ومع عدم وجود نهاية للحرب فإن احتمالات التصعيد واردة، بما في ذلك استخدام أسلحة نووية.

إن هذه الصورة التي لم تتغير كثيرا منذ نهاية 2022، هي التي جعلت صندوق النقد الدولي يخفض من توقعاته للنمو العالمي في 2023 إلى 1.7 في المائة، مقارنة بالمعدل البالغ 3 في المائة مع احتمالات أن ينمو الاقتصاد العالمي بمعدل 2.7 في المائة في 2024.

لقد كان الصندوق مع نهاية العام الماضي وبداية هذا العام يرجح التراجع الحاد في النمو واسع النطاق، لكن سرعان ما بدأت الأمور تتغير مع نهاية كانون الثاني (يناير) 2023، فقد نجحت دول الاتحاد الأوروبي حتى الآن على الأقل في تجنب الترشيد الجماعي للطاقة وموجة عمليات الإفلاس التي كان يخشى حدوثها، وذلك طبقا لتقرير نشرته “الاقتصادية” بهذا الخصوص، ونجحت جهودها في تعزيز مخزونات الوقود وكبح الطلب على الطاقة، كما أن هذا الشتاء جاء معتدلا بشكل غير عادي.

ففي تقرير لمركز بروجل الأوروبي للأبحاث، “جاءت أسعار الطاقة في 2021 أكبر منها في 2022، ما يشير إلى أن الحرب والعقوبات لم تؤثرا بشكل عميق في هيكل الاقتصاد الأوروبي”، وهذا دعا البعض إلى إعادة النظر في توقعات صندوق النقد الدولي لآفاق النمو العالمي.

ذلك أن الاقتصاد العالمي قد تكيف مع الصراع كما يبدو، وقد رفع صندوق النقد فعليا من توقعاته للنمو العالمي إلى 2.9 في المائة خلال 2023، بعدما كانت عند 2.7 في المائة، وقد برر الصندوق ذلك بما أضافته إعادة فتح الصين اقتصادها، وتخليها عن تدابير سياسة “صفر كوفيد”، ما يمهد الطريق لانتعاش أسرع من المتوقع، كما توقع تراجع معدل التضخم العالمي المسجل في 2022 عند 8.8 في المائة إلى 6.6 في المائة في 2023، و4.3 في المائة في 2024، وأصبح الصندوق يرى أن السياسات النقدية المتشددة قد أثبتت جدواها.

من جانب آخر، شكك عدد من الخبراء الاقتصاديين، حسب استطلاع، حول إذا ما كان النمو العالمي يمكن أن يحقق الآن توقعات الصندوق لـ2023 بالنمو 2.9 في المائة، فالخطر يكمن في أن أسعار الطاقة، وبالتالي التضخم، سيتزايد إذا لم تتم تغطية النقص، كما أن أثر الصراع في التجارة العالمية غير واضح أيضا، إضافة إلى بروز نخب سياسية تدافع عن الحمائية، ما عزز من توقعات منظمة التجارة العالمية بتزايد احتمال انقسام التجارة إلى تكتلات يعادي بعضها بعضا، وهو سيناريو قال صندوق النقد، “إنه يقلص الناتج العالمي بما يصل إلى 7 في المائة”.

فمن الواضح تنامي الاستقطاب والتكتلات والتجارة البينية وزيادة الحمائية، ما يجعل التفاؤل الذي طرأ فجأة على تقرير الصندوق محل تساؤل ويجب أن يؤخذ بحذر، خاصة أن هذا التفاؤل لم يكن بالقدر نفسه مع اقتصادات الدول النامية.

فإذا كان الصندوق يرى أن اقتصاد أوروبا أكثر مرونة في مواجهة صدمة معدلات التبادل التجاري السلبية الكبيرة من الحرب في أوكرانيا، فقد خفض توقعه لنمو اقتصادات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى 3.2 في المائة خلال 2023 مقارنة بـ3.6 في المائة كانت متوقعة في تشرين الأول (أكتوبر)، كما توقع أن يتراجع معدل النمو في اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية من 3.8 في المائة في 2022 إلى 2.7 في المائة في 2023، على أساس ضعف الطلب الخارجي بدرجة كبيرة لارتفاع معدلات التضخم، وانخفاض قيمة العملة، وتشديد شروط التمويل.

من خلال المناقشة السابقة لكل وجهات النظر الحالية، فإن 2023 شهد التأرجح بين نمو وتراجع، وبين تفاوت واسع بين الدول والاقتصادات المتقدمة والصغيرة، وبين تكتلات تريد إثبات وجودها على الساحة العالمية وفرض نفوذها واختياراتها، وبين شد وجذب في الصراع الروسي – الأوكراني الذي لا يبدو أن نهايته قريبة، وبين تضخم وسعر فائدة، وبين اقتصادات نامية ترى أسعار الفائدة مهددة لاستقرارها الاقتصادي وبين دول متقدمة ترى التشدد في السياسات النقدية هو المخرج الوحيد من أزمة التضخم.

كل هذا التفاوت سيلقي بظلال واسعة على صحة تقديرات صندوق النقد، الذي عدل من توقعاته أكثر من مرة خلال الأشهر الستة الماضية، حتى خلال الفترة من بداية يناير 2023 حتى نهايته.


Source link

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى