الزلازل وانهيار حضارة أوغاريت والتطلعات
شهد العالم هذا الشهر زلزالا مدمرا، شمل تأثيره، وتأثير تداعياته، منطقة واسعة جنوب تركيا وشمال سورية، امتدت إلى الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، وأدى ذلك إلى مآس إنسانية مروعة، خفقت لها القلوب الحانية حول العالم، وسارعت من أجلها دول مسؤولة نحو الإسهام في إنقاذ ما يمكن إنقاذه. وعلى الرغم من أن العالم قد عهد، عبر العصور، حدوث زلازل عديدة في مناطق مختلفة من العالم، وعلى الرغم من أنه حقق أيضا تطورا علميا هائلا في مجالات مختلفة، إلا أن مسألة إعطاء إنذار مبكر بحدوث الزلازل، بهدف تجنب مآسيها، لا تزال حلما يرجى له أن يتحقق. وتبقى الزلازل ظاهرة مدمرة، تحدث خارج إطار قدرات الإنسان وإمكاناته، وتبقى مسألة أخذ احتياطات فاعلة تعزز الصمود أمامها، وإصدار إنذارات مبكرة تحد من مآسيها، معضلات تبحث عن حلول ناجعة.
يلقي هذا المقال الضوء على ثلاثة أمور رئيسة. يهتم أولها بمصادر الزلازل وكيفية حدوثها، ويستند في ذلك إلى المعرفة المتداولة في هذا الشأن. ويركز الأمر الثاني على أثر الزلازل في مراكز حضارات قديمة كانت قائمة في منطقة الزلزال المدمر الأخير ذاتها، ومرجعية ذلك بحث أجراه آموس نور Amos Nur في جامعة ستانفورد الأمريكية الشهيرة، ونشر 1998، ويحتفظ به مركز بيانات “الفيزياء الفلكية Astrophysics” في “وكالة الفضاء الأمريكية NASA”. فلهذه الوكالة اهتمام خاص برصد جيولوجيا الأرض، حتى جيولوجيا بعض الكواكب الأخرى، عبر مركباتها الفضائية. وينظر المقال أخيرا في آفاق مستقبل الحماية من الزلازل، ومن تأثيراتها ومآسيها.
إذا بدأنا بأمر مصدر الزلازل، لوجدنا أن هذا المصدر يكمن في حركة “القشرة الصخرية Crust” المحيطة بالكرة الأرضية. ويبلغ عمق هذه القشرة برا نحو “30 إلى 50 كيلومترا”، كما يبلغ عمقها في أعماق البحار نحو “خمسة إلى عشرة كيلومترات”. وإذا أردنا أن ندرك مدى هذا العمق، لعلنا نذكر أن طول نصف قطر الكرة الأرضية هو نحو “6378 كيلومترا”. أي أن القشرة الأرضية البرية تمثل أقل من “1 في المائة” من نصف قطر الأرض. وقد كان عمق الزلزال الأخير نحو “18 كيلومترا”، وكانت شدته مرتفعة جدا، حيث بلغت “7.8” على مقياس ريختر، وهو مقياس لوغاريتمي غير خطي تتضاعف شدته مع زيادة قيمته. وقد حدث الزلزال في القشرة الأرضية، ولو أنه حدث في قشرة البحار لأدى إلى “موجات بحرية مدمرة Tsunami” تغزو المدن الساحلية القريبة منه.
تتكون قشرة الكرة الأرضية من صفائح صخرية، كثيرا ما توصف “بالتكتونية Tectonics”، نسبة إلى كلمة ذات أصول “لاتينية Latin”، تعني بنيوية. وهناك بين هذه الصفائح، صفائح عملاقة، تحمل قارات بأسرها، إضافة إلى صفائح صغرى تحمل مناطق مختلفة. وتتحرك هذه الصفائح فوق طبقات الأرض تحتها متقاربة أو متباعدة، بسرعات تراوح بين “الصفر وعشرة سنتيمترات” سنويا، كما أنها تتأثر بما يجري في تلك الطبقات. وتتسبب حركة الصفائح في بعض الحالات في اختلالات واحتكاكات فيما بينها، لتتشكل بذلك شحنات من الطاقة التي تتفجر في زلازل مختلفة الشدة، قد تكون غير مؤثرة أو محدودة الأثر، أو ربما تكون قاسية، كما حدث أخيرا.
وننتقل إلى الأمر الثاني، حيث يبرز بحث جامعة ستانفورد تعرض المنطقة، التي شهدت زلزال الأمس، إلى 47 زلزالا مدمرا خلال 50 عاما في الفترة بين 1225 قبل الميلاد حتى 1175 قبل الميلاد. وأصابت هذه الزلازل مراكز حضارية مهمة، ودمرتها، لتنهي بذلك حقبة حضارية متميزة لتلك المنطقة. وتوزعت هذه المراكز على مناطق في كل من تركيا، وسورية، وجزيرة قبرص، وجزيرة كريت، واليونان، وغيرها. وكان ذلك قرب نهاية العصر الذي يسمى “بالعصر البرونزي Bronze Age”، الذي بدأ 3300 قبل الميلاد، وهو العصر الذي شهد صناعة السبائك من عناصر معدنية مختلفة، حيث مكنت هذه السبائك الإنسان من تصنيع أدوات جديدة غير مسبوقة تساعده في شؤون حياته.
تميز العصر البرونزي أيضا بظهور الأبجديات اللغوية، ولعل من أبرزها أبجدية لغة أهل أوغاريت، المدينة المتميزة التي تقع على ساحل البحر الأبيض المتوسط، في مكان يعرف حاليا “برأس شمرا”، ويقع شمال مدينة اللاذقية، على بعد نحو “عشرة كيلومترات” منها. واكتشفت آثار مدينة أوغاريت في 1928 على يد بعثة فرنسية متخصصة قادها عالم الآثار كلود شيفر Claud Schaeffer. ويعتقد، بناء على دراسات هذه البعثة وما بعدها، أن أبجدية أوغاريت ظهرت نحو 1500 قبل الميلاد، وتكونت من “30 حرفا”، وعاشت فترات من التأهل الحضاري، أسهمت خلالها في معطيات حضارة الإنسان، في تلك الحقبة، لكنها دمرت بعد ذلك، مع مراكز حضارية أخرى، في زلازل فترة الـ50 عاما سابقة الذكر.
ونصل إلى الأمر الثالث، وهو آفاق مستقبل الحماية من آثار الزلازل ومآسيها. يحتاج المستقبل إلى ثقافة عامة يكتسبها الجميع بشأن الزلازل. ماذا نفعل وكيف نتصرف عند حدوث الزلزال، وما الاحتياطات الواجب اتخاذها لتجنب مآسي الزلازل. وليست ثقافة التصرف وحسن السلوك في أوقات الزلازل مطلوبة من الأفراد فقط، بل هي مطلوبة أيضا من جهات فرق الإنقاذ والتعامل مع الكوارث، وعلى هذه الجهات، وضع الخطط اللازمة لعمل منسوبيها في حالات الكوارث، ليس على مستوى الدولة التي ينتمون إليها فقط، بل على مستوى العالم أيضا، من أجل مساعدة الجميع عند الحاجة.
وليست الاحتياطات المطلوبة ثقافة عامة يدركها الجميع، وتفيد في توجيه السلوك فقط، بل هي أيضا علم يدرس ويقدم حلولا لمشكلات الزلازل. ولعل من أبرز الاحتياطات المطلوبة، شروط البناء التي يجب أن تشمل التحلي بمواصفات خاصة، تجعل الأبنية قادرة على حماية ساكنيها من أخطار الزلازل، أو ربما عصية، بقدر مرتفع، على التأثر بها. وتبقى مشكلة الإنذار المبكر لحماية الجميع قائمة، ولعل مراقبة حركة القشرة الأرضية بدقة عبر الذكاء الاصطناعي، وتزويد وسائل هذا الذكاء بالمعلومات والخبرات السابقة المتراكمة، ما قد يسمح بمثل هذا الإنذار في المستقبل.
Source link