عربي

استراتيجية الهيدروجين اليابانية .. قفزة في أمن الطاقة وتعزيز النمو الاقتصادي

اليابان ثالث أكبر اقتصادات العالم بعد الولايات المتحدة والصين، وتسبق العملاق الأوروبي ألمانيا في المرتبة الاقتصادية.
ورغم افتقارها لمصادر كافية من الطاقة، ونقص حاد في الموارد الهيدروكربونية، فقد نجحت في بناء قاعدة صناعية عملاقة. بينما ظلت تعتمد على وارداتها من النفط والغاز والفحم لتلبية الاحتياجات الاستهلاكية النهمة لمصانعها ولسكانها الذين يزيد عددهم حاليا على 125 مليون نسمة.
في عام 2017 أصدرت اليابان استراتيجية الهيدروجين الأساسية، لتصبح أول دولة في العالم تتبنى إطار عمل هيدروجيني وطني، والآن ها هي تسرع من خططها الوطنية لسد الجزء الأكبر من احتياجاتها من الطاقة من خلال الهيدروجين، ما يعد واحدا من أكبر الرهانات الدولية على أحد مصادر الطاقة التي ما يزال يتشكك البعض في فاعليتها، بينما يطرح البعض الآخر تساؤلات بشأن جدواها المالية.
مع هذا، ترى طوكيو أن هذا التغيير جزء حيوي من خطتها للقضاء على انبعاثات الكربون بحلول منتصف القرن، كما أن نجاحها في هذا المشروع العملاق سيمكنها من إرساء الأساس لتتبوأ قيادة سلاسل التوريد العالمية التي من شأنها أن تسمح للهيدروجين أن يصدر بمفرده كمصدر للطاقة على غرار الطريقة التي كانت فيها اليابان رائدة في مجال الغاز الطبيعي المسال في سبعينيات القرن الماضي.
وفي هذا السياق، شجعت الحكومة اليابانية على إنشاء سلاسل توريد الهيدروجين الدولية بالتعاون مع دول في المحيطين الهندي والهادئ وأوروبا والشرق الأوسط، كما طور كل من القطاعين العام والخاص في اليابان شراكات مع دول مثل أستراليا وإندونيسيا وماليزيا وسنغافورة والسعودية والإمارات.
وفي سبتمبر من عام 2020 استلمت اليابان أول شحنة في العالم من الأمونيا المستندة إلى الوقود الأحفوري من السعودية، وفي الوقت الراهن تعد أستراليا واحدة من أهم شركاء الطاقة الهيدروجينية لليابان من خلال مشروع ناجح لأول سفينة نقل للهيدروجين المسال في العالم اسمها Suiso Frontier.
لكن اليابان لا تنظر إلى استراتيجية الهيدروجين باعتبارها وسيلة لأن تكون القائد العالمي في مجال سلاسل الإمداد الدولية للهيدروجين فحسب، وإنما وفقا لما أعلنه كبير أمناء مجلس الوزراء الياباني ماتسونو هيروكازو في السادس من يونيو الماضي “ستحقق صناعة الهيدروجين إنجازا ثلاثيا يتمثل في إزالة الكربون وإمدادات الطاقة المستقرة والنمو الاقتصادي في دفعة واحدة” وفي اليوم نفسه الذي صدر فيه هذا التصريح أعلن رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا استراتيجية اليابان الجديدة للهيدروجين، وذلك بعد ستة أعوام من استراتيجيتها الأولى.
الخبير في مجال الطاقة دي. دبليو هاري يشير إلى أن اليابان رائدة على مستوى العالم في استثمارات البحث والتطوير في مجال الهيدروجين كجزء من استراتيجيتها العامة في هذا المجال، وفي عام 2005 كانت الاستثمارات الأمريكية في صناعة الهيدروجين تقدر بـ400 مليون دولار، بينما تراوح الإنفاق الياباني حينها ما بين 210 و220 مليون دولار، ولكن بحلول عام 2019 تراجعت المخصصات الأمريكية للبحث والتطوير في صناعة الهيدروجين إلى 110 ملايين دولار تقريبا، بينما زادت طوكيو من إنفاقها الحكومي على الأبحاث الخاصة بالصناعة إلى نحو 300 مليون دولار، فضلا عن ملايين أخرى من قبل القطاع الخاص.
ويقول لـ”الاقتصادية”، إن “استراتيجية الهيدروجين اليابانية تم تنقيحها على مدار الخمسة أو الستة أعوام الماضية، ولكن يظل الجوهر كما هو، إذ إن الاستراتيجية اليابانية تتضمن أربعة أهداف، زيادة إمدادات الهيدروجين والأمونيا في اليابان من مليوني طن إلى ثلاثة ملايين طن بحلول عام 2030 ثم إلى 12 مليون طن بحلول عام 2040، وإلى 20 مليون طن في 2050. ثانيا: خفض تكاليف إمدادات الهيدروجين في اليابان من 100 ين ياباني أي نحو 0.70 سنت أمريكي لكل متر مكعب إلى 30 ينا عام 2030 ثم 20 ينا عام 2050.
ثالثا: زيادة عدد معدات التحليل الكهربائي التي تصنعها الشركات اليابانية إلى ما يقرب من 15 جيجاواط بحلول عام 2030.
أخيرا: جذب الاستثمارات العامة والخاصة إلى قطاع سلسلة توريد الهيدروجين والأمونيا لتصل إلى 107.5 مليار دولار على مدى الأعوام الـ15 المقبلة”.
ويضيف “إذا تمكنت اليابان من تحقيق ما يزيد على 12 مليون طن من إمدادات الهيدروجين بحلول عام 2040 فستكون تلك الكمية ستة أضعاف ما تنتجه حاليا، وإذا أفلحت في تخفيض التكلفة إلى 30 ينا يابانيا لكل متر مكعب في عام 2030 فسيكون ذلك ثلث المستوى الحالي تقريبا، وإذا نجحت في بلوغ 15 جيجاواط بحلول 2030 فسيعادل ذلك نحو 10 في المائة من الحصة العالمية في ذلك الوقت. باختصار يعني ذلك قفزة غير مسبوقة في مجال أمن الطاقة بالنسبة لها”.
تكشف تلك الأهداف أن اليابان ترى في الاعتماد على الهيدروكربونات أمرا لا فرار منه على المدى القصير، لكن على المدى الطويل فإنها تسعى إلى سد العجز لديها في مجال الطاقة بزيادة مساهمة الطاقة المتجددة والهيدروجين من إجمالي احتياجاتها من الطاقة، وحاليا لدى اليابان أكبر أسطول من محطات التزويد بالوقود الهيدروجيني في العالم، وأكثر من 130 محطة تنتشر في طول البلاد وعرضها مع تمركزها في أربعة مدن رئيسة، وقد بدأ تشغيل أول تلك المحطات عام 2013، وتقدم الحكومة اليابانية دعما ماليا لتشييدها وتشغيلها لكن التكاليف لا تزال مرتفعة.
من جهتها، تقول لـ”الاقتصادية”، الدكتورة إيملي كلارك أستاذة أنظمة الإدارة في جامعة سانت أندروس، “فيما يتعلق بإنشاء سلاسل إمداد دولية تعتزم اليابان تقوية روابطها مع الدول المحتملة لتصدير الهيدروجين، مثل تلك الموجودة في أمريكا الشمالية والشرق الأوسط وآسيا والمحيط الهادئ، وتدرك الحكومة اليابانية أن هناك مخاطر مختلفة مرتبطة بإنشاء سلسلة التوريد الدولية تلك، وبالتالي تعتزم تقديم الدعم فيما يتعلق بتمويل المشاريع المتعلقة بسلاسل التوريد المستهدفة، فعلى سبيل المثال ستتيح لوكالات القطاع العام الياباني رفع نسبة المخاطرة في القرارات المتعلقة بسلاسل التوريد”.
للهيدروجين مزايا رئيسة إحدى تلك المزايا أنه يمكن استخدامه بعد إدخال بعض التعديلات على محطات الطاقة الحالية، وحتى الآلات المصممة للعمل بالفحم أو الغاز أو النفط يمكن تعديلها لاستخدام الهيدروجين، وهذا سيساعد البلدان التي تسعى إلى استخدامه على تجنب التخلص من محطات الطاقة الموجودة لديها وبناء محطات جديدة أثناء انتقالها إلى استخدام الهيدروجين، ما يعني توفير المليارات من الدولارات التي يمكن استثمارها في أنشطة اقتصادية أخرى ملحة.
بدوره، يعتقد الدكتور إم.جي. كولن أستاذ الاقتصاد الآسيوي في جامعة ليدز أن هناك عوامل أخرى تدفع اليابان إلى التركيز على استخدام الهيدروجين بدلا من الأنواع الأخرى من الطاقة المتجددة خاصة الطاقة الشمسية.
ويؤكد لـ”لاقتصادية” أن الهيدروجين يمكن تخزينه واستخدامه في خلايا الوقود التي تولد قدرا أكبر من الطاقة من القدر نفسه من المساحة مقارنة بالبطاريات الكهربائية، وهذا يجعل الهيدروجين أكثر ملاءمة للطائرات أو السفن التي يتعين عليها نقل إمدادات الطاقة لمسافات طويلة.
ويضيف “لكن بالنسبة لليابان، فإن الهيدروجين لديه ميزة أخرى، إذ يجعلها أقل اعتمادا على الصين، التي تبرز كقوة في مجال الطاقة الشمسية بعد أن باتت أكبر مورد للألواح الشمسية والبطاريات الكهربائية في العالم، حيث إن 80 في المائة من الألواح الشمسية تأتي من الصين، وفي ظل الغيوم التي تغطي سماء العلاقة بين البلدين، سيكون من المقلق لليابان الاعتماد على الصين في مجال استراتيجي كالطاقة”.
ويقول “وعلينا أن نأخذ في الحسبان أن ظروف اليابان تعني أن الخيارات المتاحة لها محدودة فهي تستورد ما يقرب من 90 في المائة من الطاقة التي تستخدمها، ولديها مساحة صغيرة نسبيا لبناء مصفوفات الطاقة الشمسية أو الرياح، كما أنها أغلقت معظم محطاتها النووية بعد زلزال عام 2011 والأضرار الخطيرة للغاية التي أصيبت بها محطة فوكوشيما الذرية، وبصفة عامة فإن الشعب الياباني ونتيجة لتجربته المريرة في الحرب العالمية الثانية بسبب قصف هيروشيما وناجازاكي بالقنابل النووية يعارض إلى حد كبير الطاقة النووية”.
على اليابان التزامات وتعهدات دولية بشأن الحد من الانبعاثات الكربونية، ودون الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة سيكون من الصعب إن لم يكن مستحيلا أن تفي اليابان بتعهداتها الدولية في الوقت المحدد لها، كما أنه في جميع دول العالم يعد أمن الطاقة قضية استراتيجية تدخل ضمن نطاق الأمن القومي، لكن في اليابان فإن القضية أكثر إلحاحا وأكثر خطورة مقارنة بعديد من البلدان المتقدمة الأخرى، فاليابان بحاجة إلى قدر أكبر من الاكتفاء الذاتي وتطوير مصادر متعددة للطاقة، والهيدروجين لديه القدرة على أن يصبح حلا ليس فقط لتفي اليابان بما عليها من التزامات دولية لمكافحة الانبعاثات الكربونية، لكن أيضا لتوفير جزء كبير من احتياجات الصناعة والشعب الياباني من الطاقة الآن وفي المستقبل.


Source link

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى