آفاق استثمارية واعدة في صناعة الرياضات النسائية .. 15 % نمو متوقع للعائدات
في علم الاقتصاد هناك تاريخ طويل من تجاهل النساء، وفي الوقت الذي تكلف فيه الأغلبية العظمى من الاقتصاديين نساءهم بإدارة الميزانية المنزلية، فإنه عندما يتعلق الأمر بإدارة ميزانية المجتمع يصبح الأمر رجاليا محضا، وفي كتاب “ثروة الأمم” لآدم سميث الصادر عام 1776 الذي أسس لعلم الاقتصاد، لم ترد كلمة امرأة سوى مرتين فقط.
ورغم تراجع مشهد الاحتكار الرجالي لعلم الاقتصاد بعض الشيء في العقود الأخيرة، لا تزال كتب الاقتصاد تركز بشكل أساس على الرجل لكون النشاط الاقتصادي نشاطا رجاليا في الأساس.
وحتى اليوم، فإن الثلث أو أقل من الحاصلين على درجة الدكتورة في علم الاقتصاد من النساء، ولم تحصل على جائزة نوبل في الاقتصاد سوى امرأتين، بينما نال الجائزة أكثر من 92 رجلا، لتمثل النساء بذلك 2.7 في المائة فقط من الحاصلين على نوبل في علم الاقتصاد.
عالم الرياضة لا يختلف كثيرا عن عالم الاقتصاد، تاريخيا منعت النساء من المشاركة في الألعاب الرياضية، وعندما سمح لهن بذلك كان الدعم الذي يتلقينه يسيرا مقارنة بما يحصل عليه الرجال. في الولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال لم تبذل المدارس أي جهد لتقديم فرص متكافئة في ممارسة الرياضة للفتيات إلا بعد إقرار قانون بذلك عام 1972.
وحتى مع إعطاء النساء مزيدا من الفرص لممارسة الرياضة، فإن التمويل غير المتكافئ مع أقرانهم من الرياضيين ظل سيد الموقف، فعلى المستوى الدولي تتلقى الرياضات الاحترافية للرجال مساعدات مالية تقدر بمئات الملايين إن لم يكن المليارات من الدولارات. وهذا الأمر غير متاح للنساء بالدرجة ذاتها من السخاء، كما أن التغطية الإعلامية لا تزال تركز في الأساس على الأنشطة الرياضية للرجال.
مع هذا يمكن القول إن المشهد في “صناعات الرياضات النسائية” يتغير تدريجيا، والفضل في ذلك يعود إلى زيادة التغطية الإعلامية للأنشطة الرياضية النسائية من جانب، واقتناص عالم الأعمال الفرص الربحية في تلك الصناعة النامية من جانب آخر.
ففي تقرير المراجعة الرسمية الذي نشر أخيرا بشأن كرة القدم النسائية في إنجلترا أشار التقرير إلى أن التقديرات تكشف أن “صناعة كرة القدم النسائية في إنجلترا ستصبح صناعة بقيمة مليار جنيه استرليني سنويا”.
تقول لـ”الاقتصادية” الدكتورة كريستينا دانيال، أستاذة مبادئ علم الاجتماع الرياضي في جامعة لندن “الزيادة في التغطية الإعلامية هي المحرك الأكثر تأثيرا لنمو رياضة المرأة، وآفاق نمو الألعاب النسائية يتحسن وستزيد من 5 في المائة إلى 6.5 في المائة، وفي آخر دراسة حول الآفاق المستقبلية للرياضات النسائية وجد أن 70 في المائة من المديرين التنفيذيين في مجال الصناعات الرياضية يشيرون إلى أن عائدات الرياضة النسائية ستنمو بأكثر من 15 في المائة على مدى الأعوام الثلاثة إلى الخمسة المقبلة، وفي أحدث دراسة استقصائية أصدرتها شركة الخدمات المهنية العالمية، وتضمنت ردودا من 507 من كبار المسؤولين التنفيذيين الرياضيين من 43 دولة، تؤكد أن أغلب المستجيبين ينظرون إلى سوق الرياضة النسائية بوصفها جزءا مهما من نمو الصناعة مستقبلا”.
وتضيف “للأسف الشديد الاستثمار المؤسسي لم يتبع هذا الاتجاه، حيث يتبنى نهج الانتظار والترقب الأكثر حذرا، فتزايد القاعدة الجماهيرية أمر ضروري لجذب الشركاء التجاريين والمستثمرين المستعدين للاستثمار في الرياضة النسائية، وتوفير الموارد المالية المطلوبة عنصر حاسم لإحداث النمو على جميع المستويات، فمن الضروري أن يعمل جميع أصحاب المصلحة معا لتسريع نمو الرياضة النسائية، وبناء منصة قوية ومستدامة لتحقيق النجاح على المدى الطويل”.
ووفقا لوجهة النظر تلك، فإن “صناعة الرياضة النسائية” جاهزة لتحقيق قدر أكبر من الدخل إذا ما توفر لها عناصر رئيسة معينة، وسيظل التحدي الأكبر يكمن في قدرة الرياضة النسائية على جذب جمهور أكبر من المشاهدين، ومن ثم الرعاة تلقائيا، وهذا بدوره سيزيد الإنفاق التسويقي والوعي بأهمية الرياضة النسائية والصناعات المرافقة لها، ولكن كي يحدث هذا، فإن صناعة الرياضة بأكملها تحتاج إلى الاستثمار على أساس مستدام في إيجاد مزيد من الفرص للرياضات النسائية لإثبات قيمتها التجارية.
ولكن من أين تأتي تلك القناعة لدى الخبراء بأن صناعة الرياضات النسائية ستحقق مزيدا من العوائد والإيرادات في القادم من الأيام، ما يجعلها ساحة جذابة لمزيد من الاستثمارات.
يقول لـ”الاقتصادية”، المحلل الرياضي بنجامين توماس “تستند العائدات الرياضية إلى ثلاث ركائز أساسية: حقوق البث التلفزيوني، والحضور يوم الحدث، والرعاة. بخصوص حقوق البث التلفزيوني هي أكبر مصدر للإيرادات الرياضية، نظرا لأن قيمة الحقوق، سواء لتوليد عائدات الإعلانات أو الاشتراكات تعتمد على حجم الجمهور، ويجب أن تجتذب الرياضة النسائية المتلفزة عددا كبيرا من المشاهدين لتحقيق أرباح كبيرة، ويلاحظ حاليا تزايد نسبة مشاهدة الرياضة النسائية رغم أن التغطية لا تزال نادرة، مقارنة بتغطية الرياضات الرجالية، ففي إنجلترا على سبيل المثال ستتضاعف مشاهدة الرياضات النسائية ثلاثة أضعاف بحلول 2030 حيث يتوقع أن يصل عدد المشاهدين إلى 33 مليون شخص”.
ويتابع “إضافة إلى حقوق البث التلفزيوني، فإن الأحداث الرياضية النسائية تولد مستويات حضور جماهيري قوية يوم الحدث، ويلاحظ أن الأرقام القياسية للحضور الجماهيري يتم كسرها شهرا بعد آخر، ففي الماضي كان الحضور في المباريات النسائية في بعض الأحيان منخفضا ويقدر بالألف أو حتى المئات، خاصة أن المسابقات كانت تجري في ملاعب تدريب ذات مقاعد محدودة، اليوم الحضور بعشرات الآلاف من المشجعين، حيث يتم اللعب في ملاعب أكبر”.
ويعتقد بنجامين توماس أن رعاية المباريات الرياضية النسائية في مهدها ولكنها تسير على مسار قوي، فالقيمة العالمية لرعاية الألعاب الرياضية بلغت نحو 55 مليار دولار سنويا، ورعاية الرياضة النسائية لا تزال تشكل جزءا صغيرا منها، لكن مع زيادة المتابعة التلفزيونية من جانب ونمو أعداد الحضور في الملاعب، فإن ذلك يشجع عديدا من الرعاة على التفكير في الرياضة النسائية، وسيؤدي ذلك إلى إيجاد جاذبية سوقية تجعل الرياضات النسائية ذات قيمة أفضل مقابل المال مقارنة بنظيرتها من الرياضات الرجالية، إذ إن إبرام الصفقات فيها سيكون أسهل. يبدو الأفق الرحب لصناعة الرياضات النسائية واضحا من وجهة نظر الفيفا، فمع تنامي شعبية الرياضات النسائية زادت الجوائز التي ستتقاسمها الفرق الـ32 في كأس العالم للسيدات لكرة القدم الذي تستضيفه حاليا أستراليا ونيوزلندا بشكل مشترك إلى 152 مليون دولار، أي ثلاثة أضعاف المبلغ المدفوع في 2019، وعشرة أضعاف ما تم دفعه 2015. ورغم أن العروض المقدمة من مقدمي خدمات البث، ولا سيما في الدول الأوروبية الخمس الكبرى كانت مخيبة للآمال، وكانت أقل بـ20 إلى 100 مرة من عروضهم المقدمة لكأس العالم للرجال، إلا أن نسبة المشاهدة لكأس العالم للنساء التي تبلغ، وفقا لتقديرات الفيفا بين 50 و60 في المائة من نسبة مشاهدة كأس العالم للرجال ستغير المشهد حتما على الأمد الطويل.
مع هذا يظل السؤال الرئيس قائما ما وضع الاستثمارات في مجال صناعة الرياضات النسائية؟
يقول لـ”الاقتصادية” أوليفر وليام الخبير الاستثماري، “نشهد زيادة في الصناعات الرياضية النسائية وتحديدا في تمويل الفرق النسائية الرياضية، ويلاحظ أن التقييمات المنخفضة لقيمة الفرق النسائية، مقارنة بنظيرتها من الرجال تشجع على عمليات الاستحواذ، فمثلا في 2020 دفعت مجمعة OLG الفرنسية 3.15 مليون دولار للاستحواذ على حصة تقدر بـ90 في المائة تقريبا من فريق NWSL الذي يتخذ سياتل مقرا له، ونادي ريال مدريد أطلق فريقه النسائي في 2019 من خلال الاستحواذ على فريق CD Tacon الموجود في مدريد مقابل نصف مليون يورو”.
ويضيف “مع ذلك عمليات الاستحواذ ليست المصدر الوحيد للأموال المتدفقة على الفرق النسائية، فمع زيادة شعبية الألعاب النسائية بدأت الأندية الكبرى تضخ مزيدا من الاستثمارات في الفرق النسائية لديها، كما أن الجوائز المالية المتزايدة والمخصصة للألعاب الرياضية للسيدات آخذة في الارتفاع، ما يزيد تدفق الأموال إلى الفرق الوطنية، ورغم أن المبالغ لا تزال صغيرة في جوائز الفرق النسائية، مقارنة بالرجال، إلا أن النمو في قيمة تلك الجوائز يفوق معدل النمو في مثيلتها في رياضات الرجال، وقد شجع ذلك على زيادة الاستثمارات لإحداث تحسينات في مستويات الأجور للعاملين في مجال ألعاب السيدات ومنحهن مزيدا من المزايا”.
تتمتع الرياضات النسائية بآفاق اقتصادية واعدة وكبيرة وإمكانات هائلة إذا أمكن الحفاظ على زخمها، ورغم الرياح العكسية بسبب جائحة كورونا، فإن الأمور بدأت في التغير الآن، فصناعة الرياضة النسائية لها قيمة محتملة هائلة ليس فقط من الناحية المالية، ولكن أيضا من منطلق تمكين المرأة فنصف البشرية نساء ولا يمكن بأي شكل من الأشكال تجاهل 50 في المائة من “المستهلكين”، وفقا لحسابات الربح والخسارة الاقتصادية.
ويتطلب ذلك من الرعاة الاستفادة من الفرصة المذهلة للرياضة النسائية، فرعايتها ليست مربحة وحسب، ولكن تظهر مدى نضج الرأسمالية الوطنية، خاصة في الاقتصادات الناشئة، وقدرتها على إحداث تغييرات إيجابية في المجتمع، فالنساء يتمتعن بقوة شرائية كبيرة، ويمكن أن تستفيد الشركات الراعية من ولعهن بالعلامات التجارية، والرياضات النسائية مشاهدتها ليست حكرا على النساء، فهي كالألعاب الرياضية للرجال يشاهدها الطرفان رجالا كانوا أم نساء، ومن ثم فالعلامات التجارية الرجالية أمامها فرصة لرعاية الرياضات النسائية محققة من ذلك أرباحا ملحوظة.
كما أن العلامات التجارية النسائية التي لا تستطيع أن ترعى بطولات الرجال الرياضية سيكون لديها الآن فرصة كبيرة لتعزيز مكانتها في الأسواق، لكن الأمر سيتطلب إحداث تغيرات ملحوظة في مجالس إدارة الشركات الكبرى التي تقوم برعاية البطولات الرياضية، بمنح مزيد من المقاعد للمرأة في مجالس الإدارة لتشكل تلك الشركات فهما أعمق وأدق لطبيعة الفرصة الاستثمارية المتاحة في صناعة الرياضة النسائية.
عموما يستغرق التغير وقتا، وفي مجال صناعة الألعاب النسائية قد يستغرق عقودا أو جيلا، حتى نشهد انطلاق جميع الإمكانات الكامنة والكاملة للرياضة النسائية، وحتى يتحقق وضع عادل للرياضة النسائية، مقارنة بالرياضة في عالم الرجال، فإن على الرعاة والمستثمرين قراءة المشهد المستقبلي بصورة دقيقة وإدراك الصعود الراهن في مجال الألعاب الرياضية النسائية، وما يضمنه ذلك من فرص استثمارية رائعة لهم وللمجتمع.
Source link